الأحد، 8 نوفمبر 2015

حزن








حزن










كان جالساً علي الفراش، حين وقف زميله علي باب الغرفة، فنظر له نظرة خاوية، ثم أطرق رأسه أرضاً. فقال له صديقه:
- هل ستظل علي هذه الحالة كثيراً.
لم يرد الرجل، في حين أكمل صديقه:
- ما حدث قد حدث يا صديقي، لقد ماتت زوجتك وانتهى الأمر.
بدا كأنه سيدمع، لكنه تمالك نفسه، في حين دخل الصديق للغرفة وهو يتابع:
- لقد مرت ثلاثة أسابيع، وأنت علي هذه الحالة، إن الحزن لن يساعدك يا صديقي، عليك أن تكمل حياتك.
تنهد الرجل ثم قال بنبرة حزينة للغاية:
- حياة...... أي حياة تلك.
قال الصديق:
- لقد قلت لك إن ما حدث قد حدث، لا تجعل الحزن يسيطر عليك إلي هذه الدرجة، إنك لست أول ولن تكون آخر من يحدث له هذا. ولكن صدقني إن ردة فعلك هذه مبالغ فيها إلي أقصى حد.
نظر له الرجل، فأكمل الصديق:
- إنك لم تعد تخرج منذ ثلاثة اسابيع، وقبله كنت نادر الخروج. وأصبحت ترفض مقابلة أهلك الذين يأتون لزيارتك، إن حالتك تسوء كل فترة عن ذي قبل.
قال الرجل بنبرة غاضبة:
- أهلي... لا أهل لي. إنهم سبب ما أنا فيه من تعاسة.
قال صديقه:
- إن أخاك فقط هو السبب، ولكن ما ذنب والديك؟
قال الرجل:
- كلهم ساهموا في ذلك، لماذا لم يمنعوه؟
ثم قال بأسى:
- لو فعلوا هذا لكنت الآن اتمتع بالسعادة.
قال الصديق:
- لن أجادلك في هذا، ولكن....
وصمت قليلاً ثم قال:
- لماذا لا تنتقم؟
بدا وكأن الفكرة قد راقت للرجل، إذ نظر له في تساؤل فقال الصديق:
- نعم نعم..... فقط أخرج من هنا وتعالى معي، وسأعرفك علي شخص يمكنه مساعدتك في ذلك.
قال الرجل:
- أحقاً.... ولكن ما المقابل؟
قال الصديق:
- ليست هذه نقطة الخلاف. اسمع كلامه اولاً ثم سنناقش السعر.
ولم يترك له فرصه ليجادل... إذ جذبه من ذراعه، وخرج به من الغرفة، فقال له الرجل:
- إلي أين ستأخذني؟
قال الصديق:
- إلي فناء السجن.
ثم تابع:
- ( سعيد الضبش ) لديه ألف طريقة وطريقة، للانتقام من أخيك الذي أبلغ عنك.
...........

الجمعة، 6 نوفمبر 2015

النداء








النداء






اعتدل وشد قامته، ثم رفع يديه لأعلى....
قبل أن يبدأ في رفع الآذان .... لمحه بطرف عينه.
خفض يديه غير مصدق لما رآه.... لقد قفز هذا الشاب من سطح منزلهم لسطح المنزل المجاور...
لا يعرف كلا المنزلان، ولكن يجب ألا يصمت...
لم يجد شيئاً يفعله أفضل من هذا، لذا شد قامته مجدداً و...
- الله أكبر الله أكبر....
قالها بأعلى صوته موجههاً إياه نحو الشاب.
ولدهشته التفت الشاب لمصدر الصوت... كلاهما رأى الآخر، وتلاقت عيونهما.
وقف الشاب ونظر نحوه نظرة تحدي، فأكمل الرجل نداؤه:
- الله أكبر الله أكبر....
أشاح الشاب بنظره وبدأ في البحث علي سطح جاره عن شيء ما.....
رفع الرجل صوته وهو يكمل:
- أشهد أن لا إله إلا الله...
التفت الشاب نحوه، ثم ما لبث أن أكمل بحثه.
- أشهد أن لا إله إلا الله....
قالها الرجل بإصرار، محاولا جذب انتباه الشاب، الذي لم يعره انتباهاً.... فتابع:
- أشهد أن محمداً رسول الله....
نظر له الشاب، ولوح بقبضته مهدداً، فلم يتأثر ورفع صوته وهو يكمل:
- أشهد أن محمداً رسول الله....
لم يهتم الشاب هذه المرة، إذ بدا واضحاً أنه عثر علي شيء ما.
- حي علي الصلاة.....
قالها الرجل، في محاولة يائسة لجعل الرجل يكف، ولكنه لم يهتم وبحث عن كيس من أجل جمع ما يريده، والمؤذن يكرر بإصرار:
- حي علي الصلاة....
صمت الرجل قليلا، وأكمل وهو يمسح الدموع من عينيه:
- حي علي الفلاح.....
لم يسمعه الشاب، وهو منغمس في جمع غلته داخل الكيس، في حين أكمل الرجل متوسلاً:
- حي علي الفلاح.....
وقف الشاب ونظر للرجل بتحد، ثم رفع كيس غنيمته معلناً انتصاره، فرد عليه الرجل بتحد أكبر:
- الله أكبر .... الله أكبر...
عاد الشاب لسطح منزله محملاً بالغنيمة، وتابعه الرجل بحسرة، وختم ودموعه تغالبه:
- لا إله إلا الله....
..........


الاثنين، 26 أكتوبر 2015

جواهر سلمان



جفف (سلمان) الصياد عرقه الغزير من حرارة هذه الليلة من ليالي الصيف ، قبل أن يبدأ في شد شباكه راجيا من الله أن يرزق بالخير الوفير. وحين بدأ في شد الشباك عجز عن فعلها في أول الأمر فتهللت أساريره  وقال :
-       الحمد لله . يبدو أن الرزق وفير هذه الليلة.
قالها وجاهد بكل قوته لرفع الشبكة, التي بدأت تستجيب له وترتفع شيئا فشيئا0 وببطء خرجت من المياه , فجذبها بكل ما تبقى له من قوة نحو مركبة وهو يقول:
-       وأخيرا أيتها الأسماك الحبيبة0
قالها ونظر بارتياب نحو الشبكة .. كان الظلام حالكا", والقمر هلالا" صغيرا" لا يتيح له رؤية الشبكة بوضوح , ولكنه قدر أنه لم يصطاد أسماكا" كثيرة كما حسب, بل اصطاد شيئا واحدا كبيرا" في الحجم, فقال وهو يفكر :
-       ما هذا الشيء بالضبط0
قالها وحاول الامساك به, فتلقى لطمتين فقال :
-       سمكتان... لقد اصطدت سمكتان .
قالها وحاول الاقتراب مرة أخري, فتلقى لطمتين من أعلى الشبكة فقال:
-       أربع سمكات .... لقد اصطدت أربع سمكات كبيرات الحجم ملفوفة في أعشاب البحر..... هذه مفاجأة.. لم أصطد شيئا كبيرا كهذا في حياتي ... لا بأس يمكنني تسويقه بإذن الله.
قالها وأسمك بمجدافي مركبة , وبدأ يجدف بقاربه نحو الشاطئ البعيد وقد تملكته رغبه عارمة في معرفة نوع الأسماك التي اصطادها . فهي هادئة لم تحاول التحرك إلا حين لمسها, وإن كان سعيدا من داخله لأنه اصطاد أسماك كبيرة الحجم مثله مثل البحارة, الذين سافروا للبحار البعيدة على مراكب ضخمة . وهو اصطاد مثلهم في أول مره يتوغل فيها داخل البحر , بعد أن مرت عليه عدة أيام دون أن يصطاد شيئا يذكر. لذا كان صيد هذه السمكات حدث هام بالنسبة له . وإن كان يضايقه أنه يسمع ما يشبه صوت تنفس غير منتظم من أسماكه, ولكنه لم يعر هذا أي اهتمام حين وصل للشاطئ.. لم يكن الفجر قد طلع بعد لذا سحب القارب نحو الشاطئ ,ثم جر الشبكة نحو كوخه القريب من الشاطئ ثم ملأ حوض واسع داخل كوخه بالماء وألقي الشبكة فيه وقال :
-       لقد أعدتكم للماء ثانية . الأن اسمحوا لي بالعودة لموطني الطبيعي أنا الآخر.
وأضاف وهو يتثاءب :
-       الفراش....
قالها واتجه بخطوات ثقيلة نحو فراشه, وغاص فيه غوصا وراح في ثبات عميق.
وبعد عدة ساعات استيقظ (سلمان) الصياد من نومه ونهض من الفراش وهو يقول :
-       يمكن للأسماك ان تنتظر فالجوع يعصف بي .
قالها واتجه نحو مطبخه وتناول إفطارا سريعا ثم نهض نحو حوض المياه وكانت الأسماك داخل الشبكة تتحرك حركة هادئة فقال :
-       حسنا.. أنا قادم يا فتيات0
ثم بدأ في فك الشبكة من عليها ونزعها بسرعة, وهو مغمض العينين ويقول بعد ان أكمل مهمته :
-       والآن إلى المفاجأة .
قالها وفتح عينيه ولكنه لم يتمالك نفسه من هول المفاجأة, فأمامه كانت أجمل فتاه رآها بعينه أو حلم بها هو وأي رجل آخر..... فتاة بارعة الحسن بصرف النظر عن كفيها وقدميها الشبيهان بأرجل البط.. ولثواني لم يستطع سلمان ان ينطق بكلمة واحدة. فقط وقف ذاهل العينين وهو يحدق بكل هذا الجمال, وبعد دقيقه أو يزيد تمتم سلمان بكلمات بدت له غير مفهومة في أول الأمر, ولكنه سرعان ما أدرك انه لم ينطق بهذه الكلمات ولكنها جاءت من الفتاة, التي همهمت بكلمات بصوت خفيف, وإن كان قد أردك أنها خائفة فحاول ان يهدئها قائلاً:
-       مهلا يا فتاه لا تحسبي أني قادر على إيذائك أو حتى التفكير في هذا.
صمتت الفتاة ونظرت نحو الماء في حوضها, ثم رفعت عينيها نحوه وقالت بصوت عذب
-       أحقا .... لا....
تهللت أسارير(سلمان) وهو يقول :
-       أتتكلمين العربية ؟
قالت الفتاة :
-       لغات .. كثيرة .. أفعل .. بحار .. كثيرة .. أسمع .. تكلم .. أنت .. ببطء..
قال سلمان :
-       لا بأس لا بأس . سأتكلم ببطء حتى تفهمين, ولكن قولي لي اولا من أنت ؟
صمتت الفتاة قليلا ثم قالت :
-       أنا .. اسم .. (راماي) .. أنا .. بنت .. (كورين) .. حاكم .. بحر .. بعيد .. أنا .. ابتعدت .. أرضي .. تهت.
قال لها سلمان :
-       ياه .. هل يعيش أمثالك في البحر .. أهناك الكثيرون مثلك..؟
قال (راماي)
مثلي .. رجال .. مثلي .. نساء .. قبيلة .. تحت .. بحر...
قال سلمان:
-       أأنتم من بني البشر ثم سكنتم البحار؟
صمتت الفتاة ولم تجد ما تقوله فقال لها سلمان :
-       أأنتم بشر مثلنا؟
قالت (راماي):
-       أعلم .. لا .. أنا .. بحرية .. أعلم .. أرضي .. مثلك .. يعيش .. قليل .. رأيت .. من .. قبل .. سفينة .. تغرق .. عندنا .. أنتم . . تموت .. ماء .. نحن .. نعيش .. ماء
قال سلمان :
-       بالتأكيد. هذا طبيعي لابد من أنكم تتنفسون تحت الماء، وتتحركون جيداً بواسطة أرجل البط هذه . لقد خدعتني في أول الأمر ، وظننت أنها ذيول سمك كما أن ملابسك من أعشاب البحر لم أتبين حقيقتك. ولكن مجيئك إلي هنا... لابد من أن التيارات البحرية دفعتك بعيداً عن موطنك.
صمتت الفتاة فأكمل سلمان :
-       لا بأس اعتبري هذا منزلك الجديد..
نظرت الفتاة له ولم تنطق فتابع :
-       سأهيئ لكي كل سبل راحتك حتى نجد وسيلة لإعادتك إلى أهلك.
ضحكت الفتاه بأجمل صوت سمعه لضحكة من قبل وهي تقول :
-       أنت .. جميل .. رجل .. أنت .. تعيدني .. وطني..
ضحك سلمان هو الآخر وقال لها:
-       لا بأس يا فتاتي الجميلة لا يمكن أن أسمح لكي بأن تهلكي، ويهلك معكي كل هذا الجمال. سيخسر العالم الكثير، والآن كيف أهيئ لكي المكان.
-       قالت بتردد:
-       ماء .. اعرف لا .. ماء....
قال سلمان :
-       حسناً حسناً.... سأبدأ بجلب المزيد من الماء، وإذا احتجت لشيء أخر فاطلبيه مني .
قالها وخرج من كوخه واتجه نحو البحر حاملا دلو الماء وعاد به ل (راماي) وسكبه في حوضها وقال لها :
-       والان ماذا تشربين؟
قالت راماي ضاحكة :
-       اشرب .. بحر..
قال سلمان :
-       اه تشربين ماءاً مالحاً... طبعاً هذا شيء متوفر بشدة، والآن ماذا عن طعامك.
قالت (راماي):
-       أعشاب .. آكل.
قال سلمان :
-       أي نوع من الاعشاب.
لم تستطع الفتاة أن تحدد نوعا بعينه فقال سلمان :
-       أمن شيء آخر؟
قالت (راماي):
-       أسماك .. قليل.
قال سلمان:
-       لقد جئت إلى المكان المناسب، لا يوجد عندي شيء آخر سوى الاسماك.
ثم تذكر شيئا فأكمل بخجل:
-       حسنا ما عدا هذا اليوم.. واليوم السابق.. والذي يسبقه... حسنا كان هذا اسبوعاً صعباً بالتأكيد.
قالها وضحك وفهمت (راماي) معنى الكلام فضحكت هي الأخرى وقالت:
- صياد .. سيء .. لا .. أنت .. اصطدت .. أنا.
قال سلمان :
-       ربما يغير هذا من حظي والان استأذنك في إحضار بعض الطعام.
قالها وخرج من كوخه واتجه نحو البلدة ليشتري بعض السمك وهو يضحك من سخرية الموقف، وحين عاد قرب المساء اطعمها سمكه ثم قال لها :
-       والان استأذنك في الحصول على سمكة بطريقة من يسمى صياد.
ابتسمت (راماي)  له فقال لها وهو يغادر كوخه:
-       اراك عند الفجر.
ابتسمت له وقالت:
-       سلام .. انت.
هز رأسه محيياً واتجه نحو قاربه، وبدأت رحلته نحو البحر.. في هذا اليوم كان الرزق واسعاً على غير العادة، فلقد اصطاد في ليلته أكثر مما كان يصطاد في شهر كامل على الاقل، حتى انه لم يكمل للفجر وإنما عاد قبل الفجر بثلاث ساعات على الاقل، فوجد (راماي) نائمة فلم يشأ ان يوقظها ونام بجوارها على الأرض حتى استيقظت وهزته بيدها وهي تقول:
-       رجل .. ماء .. أريد..
نهض سلمان وقال
-       ياه .. أسف يا (راماي)..
       وهرع بدلوه وعاد ليملأ الحوض الذي نقص منذ ليلة امس وكرر فعلته حتى امتلأ فقالت (راماي):
-       مزيد .. لا...
قال سلمان :
-       لا بأس.
ثم صمت قليلا وقال :
-       سلمان...
نظرت له( راماي) بغير فهم فقال لها :
-       انت (راماي) وانا سلمان.
ثم ابتسم وهو يتابع:
-       رجل .. انا .. سلمان.
ضحكت (راماي) وقالت :
-       سلمان .. سلمان .. أنت.
ضحك سلمان وجلس بجوارها، وبدأ يطعمها من الأسماك التي اصطادها قبل ان يحمل الباقي، ويذهب به إلى السوق ليبيعه ويعود بالمال، ثم عاد لمنزله قرب الفجر ونام حتى العصر ثم استيقظ واتجه نحو (راماي) وقال لها :
-       والآن بشأن وطنك كيف أفيدك .. أعني .. أين هو ..
قالت (راماي):
-       ميثاي ... وطني ... بعيد..
قال لها:
-       وطنك اسمه ميثاي .. جميل ميثاي و(راماي).
تابعت (راماي) :
-       أرض .... حولنا ... لا .. أرض .. صغيرة .. توجد .. بعيد .. وبعيد .
قالتها وصمتت ففكر (سلمان) قليلاً ثم قال :
-       اه .. إذن أنت من المحيط ، ولا يوجد أرض سوي جزر متفرقة....تابعي .
بدأت (راماي) في إخباره بكل ما يتعلق بوطنها ، وكيف يقضون يومهم في الأرجحة بأرجوحات من العشب، ويمرحون وسط حقول الأعشاب المائية التي يزرعونها، ويمتطون الدلافين التي يدربونها ويمرحون مع قشريات البحر الظريفة، ويسكنون بيوتهم المبينة من المرجان والتي تنمو كل يوم وتزداد اتساعاً. حكت له عن اللآلئ التي يصنعون منها عقودهم حكت له عن الحيتان التي تنبأهم بقدوم السفن وحكت له عن مشاهدة المطر الساقط على وسط الماء، وعن التمتع بضوء الشمس في أسفل المياه حكت له عن السعادة وعن الجمال. وأخذته لعوالم لم يكن يحسب أنها توجد علي هذا الكوكب .. ولأيام عدة تحولت حياة سلمان الرتيبة المملة لأجمل حياة في الكون ... ففي أي يوم يذهب للصيد لساعات قليلة ليعود بعدها بالخير الوفير، ثم يبيعه في السوق ليعود قرب الظهر وينام حتى العصر، وبعدها يستيقظ ليتحدث مع (راماي) حتى المساء ودامت سعادته لأيام طويلة. ولكن دوام الحال من المحال فبعد ان علم سلمان أن هناك حياة رغدة ، بعيداً عن الحياة التعسة التي كان يعيشها قبل مجيء (راماي) تحركت نفسه الشريرة، وبدأ يفكر في أن من حقه أن يكون له نصيب من السعادة .. وبأي ثمن لذا بدأ سلمان في التفكير بطريقة يستفيد منها من وجود (راماي) لكسب المال، ففكر في عرضها على الناس ولكنه تراجع خشية أن تسرق منه بعد وقت قصير، ولا يكون قد حقق مالاً وفيراً من ورائها لذا فكر في بيعها وقبض الثمن مرة واحدة .. ولكن من يملك الثمن . لابد من أن يكون غنياً. ولكن الأغنياء بخلاء. فقد جمعوا المال بجهد وعرق، ولن يفرطوا فيه من أجل سمكة. إذن لابد من أن يكون غنياً من نوع خاص . نوع يهوي النفائس لابد من أن يكون أميراً.
وفي اليوم التالي وبعد أن باع سلمان الأسماك لم يعد لمنزله، بل غاب عنه حتى قرب العشاء. فلقد ذهب إلي الأمير وحكي له قصته فطلب منه الأمير أن يعود بعد عدة أيام حتى يستشير رجاله في ثمن هذا الشيء وهل هو نادر أم لا. وحيث عاد سلمان في المساء تجاهل (راماي) ونظراتها القلقة.
وهي تقول:
-       غبت ... أنت ... كثير  .. قلقة ... أنا .. كنت ....
لم ينظر لها وهو يقول:
-       كان البيع صعباً .. سأعود قرب الفجر..
ثم ملأ لها حوضها وسحب قاربه واتجه نحو البحر.... وحين عاد من السوق اليوم التالي قال لها:
-       والآن ما الذي تستطيعين فعله ؟
قال (راماي) بتساؤل :
-       لكن .. ماذا...
قال لها بنفاذ صبر:
       هل تجيدين الرقص، الغناء، سرد القصص، غزل الخيوط، أي شيء مما يرفع سعر أمثالك.
قاله له :
-        أعرف ... كثير .. تسأل .. ماذا ..
قال لها :
-       من أجل أن أحدد سعر حتى لا يحاول الأمير خداعي.
قالت له :
-       أفهم ... لا
قال لها :
-       كفي عن هذا الغباء سينخفض سعرك، لو علم الأمير أنك غبية.
قالت له:
-       أمير .. من .. سعر .. من ..
قال لها:
-       ألم أقل لك أنك حمقاء .. أمير هذا البلد طبعاً. سأبيعك له لأحصل على المال.
قالت له بذعر:
-       ماذا ... لا ... ماذا .. لا ... تفعل .. لا ... حر .. أنا .. عبدة .. لا.
قال لها:
-       كفي عن هرائك هذا. أنا اصطدتك وأنت ملكي ، وسأبيعك كما يحلو لي .
قلت تبكي وهي تقوم:
-       لماذا ... تفعل
قال لها بغضب:
-       بل لماذا لا أفعل لماذا لا أحصل على شيء جيد في حياتي.. لم أذق طوال حياتي غير التعاسة ولآن حانت لي الفرصة لأحصل على السعادة، بالمال الذي سأحصل عليه من بيعك.
قالت له:
- مال.... ليس....خير...
قال لها مستهزئاً:
-       هاه .. هذا هو كلام من تنعموا طوال حياتهم، ولم يذوقوا طعم الحرمان، ولم يباتوا يوماً جوعي، ولكن هذا لم يحدث اليوم .
قالت (راماي) وهي تسمع دموعها:
-       مال ... كثير ... ترغب ... أعطيك .. مال .. أنا .
قال لها بتهكم:
-        من أين من والدك أمير البحار.
قالت له:
-       جواهر .... بحر..  لآلي .. بحر .. مليء.
قال لها:
-       يا للذكاء .. وهل تتوقعين مني أن أعيدك للبحر، على أن تعودي أنت لي محملة بالآلي والجواهر.
قالت  له:
-       نكذب .. نحن .. لا نفعل.. نكذب .. نحن ..لا نستطيع .. لعنة .. علينا .. تحل.
قال لها :
-       سخافات... سخافات.
قالت له:
-       لآلئ .. بحر .. قريب (راماي) .. معك .. تأتي.
قال لها وقد بدأ الأمر يروق له:
-        غريب إلي أي مدي. هل كان مجيئك لقرب شاطئنا بحثاً على اللآلئ.
هزت رأسهاً مؤمنة فقال لها:
-       حسناً.... لدي حبل طوبل... يمكنني ان أربطك جيداً فتأتين لي بالجواهر، وإذ كان الأمر كافياً فربما لا بأس.
قالت له:
-       تكذب ... أنت .. تطلقني .. لا.
قال لها بسخرية:
-       نكذب .. نحن .. لا نفعل .. لعنة ... علينا .. تحل.
صمتت لحظة .. ثم قالت:
-       وقت .. وجدتني .. مكان .. وجدتني .. كل .. شهر .. تأتي .. مكاني.. أعطيك .. جواهر ... أنا.... وعد... مني...
قال لها :
-       أه .. إتاوة شهرية. لقد راق الأمر لي بالفعل .. إن الأمر يستحق المخاطرة .. حسناً .. فلنصل بالأمر إلي نهايته ونري ماذا سنجد.
وفي المساء حملها معه في قاربه، واتجه نحو المكان الذي وجدها فيه .. وربط قدميها في طرف مرساة .. ووضع المرساة على القارب، ثم قذف راماي في الماء فغابت في الماء لعدة دقائق، قبل أن تعود للسطح وهي تلقي له بحفنة من اللآلئ وهي تقول:
-       مال .. أنت ... تريد .
جمع اللآلئ ، ووضعها في راحة يده، وفكر قليلاً ثم قال:
-       تعلمين يا فتاة .. إن هذا مال كثير.. يجدر بك ان تصدقيني القول في موضوع الإتاوة الشهرية هذه، وإلا فسأنفق هذا المال في شراء سفينة أجوب بها البحار بحثاً عنك ، وحين أجدك سأنال منك.
قالت له بازدراء:
-       نكذب ... نحن .. لا
قال لها:
-       إذن فموعدنا عند مغيب هلال ثالث يوم من الشهر العربي.
قالت له:
-       تأتي .. أنا .. جواهر .. أحمل ..
ثم اتجهت تلقاء قاربه ورفعت قدميها، فحل رباطها، وأطلق سراحها، فابتعدت قليلاً ثم وقفت ونظرت له لفترة، ثم شاحت بنظرها وهي تقول مغالبة دموعها:
-       قبلي .. حطمت .. أنت.
ضحك سلمان وهو يقول لها :
-       ها ها ها .. السمكة أحبتني ..  من كان يصدق هذا.
ثم ابتعد وهو يقول:
عليَّ بالفرار من هذه البلدة. فالأمير لن يتركني . لابد من الرحيل، سأعود لكوخي وأحمل ما ينفعني في سفري.
وعاد الصياد لكوخه وحمل متعلقاته، واتجه خارجاً من بلدته مع خيوط الفجر الأولي.
وحين غاب هلال ثالث يوم من الشهر العربي التالي، كان الصياد في نفس المكان الذي وجد فيه (راماي)، ولم تمضي ثواني حتى ظهرت (راماي) فقال بفرح:
-       لقد راهنت علي هذا. كنت واثقاً من عودتك ..
لم تنطق (راماي) بكلمة، وإنما طوحت نحوه بأجمل درر رآها بشري، فهتف بفرح :
-       لقد ربحت مقامرتي. لقد كانت في محلها.
وظل يضحك فرحاً حتى أنه لم يلحظ رحيل (راماي). ولكنه تمالك فرحته وحمل جواهره وعاد للشاطئ ثم رجل مسرعاً قبل شروق الشمس.
وبدأت حياة الصياد تتغير في البلدة الجديدة التي رحل إليها ... لم يكن أحد فيها يعرفه، فادعي أنه من سلالة ملكية من بلدة بعيدة وانه يحمل إرث والده. وناداه الناس بالأمير سلمان. وبنى سلمان قصر فالثاني فالثالث. وامتلأت قصوره بالخدم والحشم، وأصبحت كلمته مجابة و ذاق طعم السعادة للمرة الأولي. وأصبح الصياد سلمان لا يعاني من الوحدة، بعد أن أصبح له عشرات الأصدقاء. وغرق في ملذاته وهو عالم أن النعيم الذي هو فيه لن ينقط ، بعد أن تيقن من أن (راماي) سوف تحافظ علي عهدها للأبد، حتى ظن أن حياته قد تحولت إلي نعيم مقيم وأن النعيم الذي هو فيه دائم لا محالة .. ولكن هيهات أن يحدث هذا .. فقد غمر الحقد عدد من الناس، ممن لم يجدوا مكاناً لهم بين أصدقاء سلمان، وبحثوا في ماضية حتى عثروا على الحقيقة. وسرعان ما طار الخبر إلي أمير بلدة سلمان الأصلية، الذي كان قد وعده ببيع (راماي)، فظن الأمير أنه باعها لآخر أعطاه مقابلها مال وفير، فاستشاط الأمير واتجه نحو أمير بلدة سلمان الجديد وحكي له ما حدث، وادعي بأن المال قد سرقه سلمان وهرب دون أن يعطيه (راماي). وأن الأمر كان خدعة من أجل المال. فأمر الأمير بإحضار سلمان وامروه بإخبارهم الحقيقة، فأخبرهم بأن أصل المال هو الجواهر التي تلقيها له (راماي) كل شهر. ولكن أحد لم يصدق حكايته، فقال لهم أن الموعد القادم قريب ويمكنهم المجيء معه.
وحين جاء الموعد. اتجه سلمان نحو الموقع. ومن بعيد راقبه الحراس. وخيل لسلمان أنه رأى (راماي) ولكنها لم تظهر. ومرت دقائق وساعات حتى طلع النهار ولم تظهر (راماي) فقبض عليه الحراس وأعادوه معه للأمير، الذي حكم بإعادة المال إلي أمير بلدة سلمان الأصلية. وهنا صرخ سلمان بأنه لا يكذب، وأن راماي ربما خافت منهم وفرت حين شعرت بوجود غرباء.
ولكن أحداً لم يصدق هذا الكلام. فقد كان أقرب للخدعة لكي يهرب من العقوبة.
وعاد سلمان فقيراً كما كان. وخرج من بلدته الجديدة هائماً علي وجهه، حتى وصل بلدة أخرى. فجلس يستريح في ظل أحد الحوائط ... وبعد قليل جلس بجواره رجل عجوز. وبدون إنذار سابق قال له الشيخ:
-       هل وجدت ما تبحث عنه.
لم يقوى سلمان على سؤال الشيخ عما يتحدث، فأكمل الشيخ:
-       أم أقول أنك فقدته للتو.
نزلت دمعة حارة من عين سلمان وبدأ وهو مسلوب الإرادة في سرد قصته على مسامع الشيخ. وبعد أن انتهي قال له الشيخ:
-       عزاءك الوحيد أنك تمتعت بالسعادة لشهور قلائل.
قال (سلمان) وهو يغالب دموعه:
-       من قال هذا. لم أشعر بالسعادة قط طوال تلك الفترة .. كنت أعطي هذا وأغدق على ذاك حتى يبقوا بجواري .. كنت أحسبهم أصدقائي ولكنهم باعوني حين ضاع المال ..
ثم قال وهو يمسح دموعه:
-       أتعرف شيئاً .. كنت سعيداً للغاية حين كنت مع (راماي). كنا نضحك ونلعب وكانت تسري عني صعوبات الحياة .. كان رزقي وفيراً وكأني كنت أرزق برزقها.
ثم صمت قليلاً قبل أن يتابع:  
-        أتعلم .. أحسب أنها كانت كذلك ... يا لي من غبي. كيف لم ألحظ هذا .. كانت دوماً تتعمد عدم تحديد مكان قومها حتى لا أعيدها. كانت تقول لي كلاماً مبهماً عن البحار والمحيطات .. لا مكان محدد لأبدأ منه أو لأنتهي إليه .. وحين كنت أطالبها بتحديد أكثر ، كانت تقول بلهجتها الساحرة:
-       ضجرت .. منى .. أنت .. تريدني .. هنا .. لا.
-       يا لي من غبي.
نظر له الشيخ وقال:
-       أنك تعس أكثر مما تخيلت يا بني. لقد كان حلمك طوال حياتك هو إيجاد السعادة. ولعمري فالناس يجمعون المال طوال حياتهم لكي يشتروا به أحلامهم. أما أنت قد امتلكت حلمك، ولكنك بعته لتحصل على المال.
ثم نهض مبتعداً وهو يقول:
-       كان الله في عونك.
وحين جاء موعد (راماي) في الشهر التالي ... كان سلمان في المكان المعتاد، وسرعان ما ظهرت (راماي) ورفعت زراعيها فوق الماء، ولوحت بكف يدها اليمني المليء بالجواهر وهي تقول:
-       شهر .. ماضي .. غبت.
ثم ألقت بالجواهر نحو قاربه، ولوحت بقبضة يدها الأخرى المليئة بالجواهر أيضاً وهي تقول :
-       شهر .. الآن .. حضرت .
ثم ألقت بالجواهر نحوه، فقال لها دون أن يهتم بالجواهر على غير عادته:
-       لقد كنت هناك في الشهر الماضي .. لماذا لم تظهري.
لم تجب عن سؤاله، وإنما قالت:                             
-       لك .. وحدك .. كنت ... أنت .. وحدك .. أضعت.
ثم غابت في المياه .. ومكث (سلمان) في مكانه لحظات قبل أن يقول:
-       معك حق.
ثم رحل مبتعداً بقاربه. وحيث وصل للشاطئ كان أول شيء فعله، هو أن قام بتوزيع الجواهر على الفقراء.
ولسنوات طويلة تكرر الأمر ..
في مساء اليوم الرابع من الشهر العربي يمر الصياد سلمان على بيوت الفقراء في البلدات المجاورة لبلدته، يوزع عليهم الدرر والجواهر، التي لم ترها عين من.  قبل وتساءل الجميع عن سر جواهر سلمان. وإن كان أحداً لم يحاول معرفة الحقيقة، حتى لا يتسبب ذلك في قطع عادت .
وظلت الحقيقة مطوية في صدر سلمان...
 حقيقة أن هذه الجواهر هي ثمن سعادته .. التي باعها ..
لقاء المال.....